الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

من رواية غداً (المذهلة),,,الالماني فالتر كاباخر

و هنا الفصل خاتمة الرواية

كان وقت الظهيرة,حين ارتفعت السحب الي عنان السماء, و لم يمر وقت طويل حتي اختفت عن الرؤية قمم سلسلة جبال المسيف بمنطقة الملك الاعظم, و كلما أوغلت في الصعود الي منطقة سقيفة راعي الجبل بالالب, كلما اشتدت كثافة الضباب, و حين خرجت من كوخ رأس الجبل-و كان ذلك حوالي الثانية عشرة و النصف- حيث توقفت به للراحة, كان الضبابب قد غلف كل شئ علي مرمي البصر, و لا يمكن لاحد رؤية شئ إلا علي بعد عشرين متراً... عبرت وادي منطقة ريدينج, و تجولت علي قمة جبل منطقة ميتربرج, مرورا بدار أرثر, قاصداً سقيفة جبل ميترفيلد ... إلا أنني حين سرت بضع مئات من الامتار علي المدق الحجري الضيق, هبت ريح عاتية تنبئ بالخطر, جاءت حاملة معها جليداً, تعرفه انوف الرحالة بجبال الالب عن بعد عند هبوبها..( و في كل الاحوال كان ذلك في نهاية اكتوبر), فاتخذت قراري بالعودة و عدم المضي في اهجاهي هذا, و ان اواصل رحلة تجولي من منطقة يجرشتايج صوب بيشوفسهوفن.. كان قد مضي علي تجوالي حتي الان نحو اربع ساعات, و لكنني لم استشعر مطلقاً بثمة تعب يذكر .. و حين تجولت لفترة قصيرة في اتجاه نزول الجبل كانت الرياح قد هدأ هبوبها حتي توقفت تماما بعد ذلك, و صارت الرؤية افضل .. كان السكون التام يسود كل مكان من حولي,  و فروع الاشجار هادئة, ما من شئ يحركها كأنها في غفوة, بل توقفت زقزقة العصافير, فلا تسمع صوتا من حولك, و كأن الطبيعة قد غطت في ثبات عميق .. شعرت باستيقاظ روحي و باشراق في نفسي, فجلست تحت شجرة صنوبر علي حافة الطريق.

تلاشت الافكار عن ذهني و لم اعد اعمل فكري في شئ يذكر, و كان احساسي الذي شعرت به كأنني اتنفس بالشهيق نفسه الذي تتنفس به الاشجار و الحشائش و الاحجار.

و كم تمنيت أن أمكث هنا حيث أكون إلي أبد الآبدين, و لكن سرعان ما حرضت نفسي علي الإفاقة من الغفوة التي انا بها- فلا بد أن الحق بالقطار, فواصلت تجوالي بالمدق الهابط الي الوادي, و شعرت بأنني وحيد في هذا العالم, لا أحد غيري معي في هذه الدنيا .. و حين وصلت بعد ذلك الي اول محطة للقطار, رأيت فلاحا صغيرا عجوزا يعالج سياج الورود المتسلقة , فأسديت إليه تحية و سلاما بصوت مرتفع.





توقفت أمام أحد محلات الاحذية طويلاً اراقب صورتي في مرآة الفاترينة.. قلت في نفسي, هذا هو أنت و مدت يدي لاتحسس ما بجعبتي, نعم, الظرف بالشهادة, فاتورة الحساب, النقود, كل شئ موجود... واصلت طريقي, الطريق الطويل باكمله حتي المنزل, سيراً علي الاقدام ..لقد عايشت كل شئ, كل ما حواه إدراكي و شعوري, و تطرقت إليه معارفي, عايشت كل ذلك بعمق شديد, و كأنها تجربة لم اعايشها قط من قبل .. كنت خارج نفسي, كل خطوة, و كل نظرة كانت مثيرة و جديدة, و فجأة تبدل العالم من حولي.

هناك تعليق واحد:

  1. دعوة للقراءة

    «غداً» لفالتر كاباخر … النمسا في الستينات / صبحي موسي

    في عالم سريع ومتغير لا يمكن توقع ما سيكون عليه الغد. هذا ما أراد الكاتب النمسوي فالتر كاباخر (1938) تأكيده من خلال روايته «غداً» التي كتبها عام 1972 ليفوز عنها بعد أربعة عقود بجائزة جورج بوشنر الألمانية، ولتصدر أخيراً طبعتها العربية بترجمة عبدالحميد مرزوق عن سلسلة «الجوائز» - الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. تقوم هذه الرواية على حيلة بسيطة بالنسبة إلى كاتبها لكنها مربكة لمتلقيها، وهي تفكيك الحدث الواحد إلى عدد من المشاهد المتوالية، والتي يتم تقديمها في وقت يتم تقديم عدد من مشاهد الأحداث الأخرى، وهو ما يجعل القارئ أمام عدد مهول من الجزئيات الصغيرة التي يعود كل منها إلى نسق أو حدث معين، وهذا ما يستدعي انتباهه الدائم كي لا تختلط عليه الأحداث أو تتوه منه أطراف الحكاية، بخاصة وأن كاباخر سعى إلى ألا يزيد أي فصل أو مشهد عن صفحة ونصف، وكل منها له مدخل سردي مستقل عن بقية المشاهد والفصول، ولا توجد علاقة سردية تربطه بنسق الحدث الذي ينتمي إليه غير جملة أو اثنتين في المشهد ككل، وكأننا أمام مجموعة مهولة من المكعبات الصغيرة التي لا يميزها غير اللون الذي تنتمي إليه.

    هكذا وضع فالتر كاباخر في مأزق التحدي للإلمام بجوانب نصه المتقشف في كل شيء، فليس ثمة جملة يمكن اعتبار وجودها زائداً عن حاجة النص، ولا يوجد لفظ يمكن اعتباره من قبيل المجاز أو البلاغة، فنحن امام وصف حيادي ولغة تقريرية، وجمل قصيرة، في إيقاع سرد سريع، وحوادث من فرط اعتيادها في الحياة اليومية لم تعد تشغل أحداً للوقوف أمامها بالانتقاء والترتيب والرصد، وتنتج من خلالها متوالية قصصية شديدة الجمال على لسان سارد واحد.

    تقوم «غداً» على رصد الحياة اليومية في المجتمع النمسوي من خلال وجهة نظر موظف في شركة إعلانات، لكن المؤلف لم يكن معنياً برصد طريق عمل الشركة ولا حتى مناقشة المشكلات التي تواجه البطل / السارد فيها، إذ أن عنايته كانت موجهة بالأساس لرصد العلاقات الإنسانية الصغيرة التي على وشك الموت في مجتمع شبه مفتت، ولم يبق فيه من وشائج تربط أهله غير الذوبان في فلك الآلة التي جزأت كل شيء وأحكمت قبضتها عليه.

    بنى كاباخر نصه على ثلاثة خطوط متوازية هي: شركة الإعلانات وعلاقة السارد بها وموقفه من رئيسه غير المقنع له في عمله، وعلاقة السارد بأصدقائه واهتماماتهم وطرائق قضاء أوقات فراغهم، أما الخيط الأخير فعن المهمة التي تم تكليفه بها كموظف في شركة الإعلانات لإقناع أصحاب الشركات والمصانع بالإعلان لديهم في أجندة العام الجديد. ولا يتوقف الأمر عند هذه الخطوط الثلاثة الرئيسة، فكثيراً ما نجد خيطاً يستمر لما يقرب من عشرة مشاهد ثم ينتهي بلا مبرر واضح في وجوده غير رغبة الكاتب في رصد جانب معين من الحياة النمسوية، كأن يستمر أصدقاؤه في البحث عن سيارة صديقتهم في أماكن عدة وسط تأكيدات دائمة بأنهم سيعثرون عليها، لكننا سرعان ما نفقد هذا الخيط الذي بدأ به النص من دون أن نعرف هل تم العثور على العربة أم أن القضية لم تعد تعنيه كسارد، لكننا رغم ذلك لا نستطيع غير الاعتراف بقدرة كاباخر على إقناعنا بأهمية التفاصيل الصغيرة في إنتاج الجمال الأدبي، ومدى قدراته هو ككاتب على إنتاج مادة مشوقة من خلال كل ما هو يومي ومعتاد.

    تذكرنا هذه الرواية بالكثير من الأعمال الأدبية المهمة التي لعبت على تقنية التفكيك ووجود عدد من المتوازيات السردية داخل النص الواحد، في مقدمها «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، و «لعبة الحجلة» لخوليو كورتاثار، غير أن «غداً» لا تحمل غير صوت الراوي؛ موظف شركة الإعلانات، وهو شخصية حيادية إلى حد اعتباره المعامل صفر في معادلة الأحداث والتفاصيل التي يرصدها عن عمله وأصدقائه، ويبدو أن كاباخر سعى إلى تقديمه على هذا النحو كصورة للإنسان الغربي الذي طحنته الحداثة ومنجزاتها وسرعة إيقاعها، حتى أن العلاقات الجسدية لديه أصبحت خاطفة ومن دون متعة أو رغبة في الدوام، وعلى رغم أن النص حيادي إلى حد لا يستشف معه موقف الكاتب مما يرصده، إلا أنه في المجمل يقدم حياة الغرب في نهاية الستينات وبداية السبعينات على أنها جحيم من التمزق في أكثر من اتجاه، مؤكداً هذا الطرح باستخدام آليات الخطاب المتوافقة مع آليات التفكيك السردي، فضلاً عن إكثاره من الخطوط المتوازية من دون أن يشترط تلاقيها في نقطة معينة.

    عن ملحق آفاق – جريدة الحياة 13/9/2011

    ردحذف